تحويل التعليم العالي من أجل مستقبل أفضل

بين نيلسون، الرئيس التنفيذي لمشروع مينيرفا

من أبرز مآخذ جهات التوظيف على الخريجين الجدد افتقارهم للمهارات اللازمة للمساهمة الفعالة في بيئة العمل. وبالفعل، يتفق الكثيرون منا ممن قطعوا شوطًا في مسيرتهم المهنية بأننا لم نستفد كثيرًا في حياتنا المهنية من معظم ما تعلمناه في المرحلة الجامعية، بل لم يرسخ منه في ذاكرتنا سوى القليل. وإذا شاءت مؤسسات التعليم العالي أن تنجح حقًا في سد ثغرة المهارات وأن تضمن قدرة الخريجين على المساهمة الفعالة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، فلا بد لها من الإجابة على جملة من الأسئلة الجوهرية: ما هي المهارات الواجب تعليمها للطلبة؟ ما مدى كفاءة اكتساب الطلبة لتلك المهارات؟ وما مدى جدوى هذه المهارات في بيئة العمل؟

غالبًا ما تُصمم المقررات الأكاديمية التقليدية للتركيز على مواضيع محددة في إطار مناهج منعزلة عن غيرها من مجالات المعرفة. إلا أن تحديات الواقع المعقدة لا تتفق مع هذه الأطر الأكاديمية المحدودة الأفق. فعلى سبيل المثال، تطلبت فترة جائحة كورونا من المسؤولين ومديري الأعمال أن يكونوا قادرين على فهم وتحليل واقع التغيرات المتسارعة في السياق الصحي والقانوني والاقتصادي، بل كان لا بد لهم من فهم التغيرات النفسية العامة المتعلقة بالقرارات التي يتخذونها. وهذه درجة من الإلمام المعرفي ليس بوسع التعليم الأكاديمي بصيغته التقليدية تزويدهم بها، حتى لو تلقوا مجموعة من المقررات التحضيرية في جميع المجالات التي ذكرناها. وليس مستبعدًا أن يواجه نفس متخذو القرار هؤلاء طائفة من القضايا المعقدة في السنوات القادمة ستتطلب منهم الإلمام بجملة أخرى من المهارات المعرفية ومتداخلة المناهج. يسلط ذلك الضوء على مدى ضرورة قيام الجامعات بإعادة النظر إلى تصميم مقرراتها من منطلق متداخل المناهج، وأن تجعل ذلك المحور الأساسي لكل ما تقوم بتعليمه، إذا شاءت أن تخرّج طلبة قادرين على إيجاد الحلول لقضايا العالم الواقعي بغض النظر عن المسار المهني الذي يختارونه.

أما من جهة الأساليب التعليمية، فإن أساليب التعليم المتّبعة في الجامعات ليست بأكثر جدوى من تصميم مقرراتها. فهي تكاد تعتمد كليًا على المحاضرات. المشكلة تكمن في أن أسلوب المحاضرات، على الرغم من كونه ذا جدوى اقتصادية من حيث التكلفة، إلا أنه أسلوب غير مُجدٍ من حيث جودة تلقي المعرفة. فقد أثبتت الدراسات أن أساليب التعليم القائمة على المحاضرات والاختبارات تُفضي إلى فقدان 60% من المعلومات المتلقاة بعد أشهر معدودة من انتهاء الفصل الدراسي. إذ أن قدرة الإنسان على الاحتفاظ بالمعلومات تتضاءل مع مرور الوقت، وهو ما برهنت عليه دراسة ابنغهاوس لمنحنى النسيان. وفي المقابل أظهرت الدراسات المجراة على مدى عقود أن تلقي المعرفة بأساليب قائمة على تفاعل الطلبة مع العملية التعليمية يضاعف من احتفاظهم بالمعلومات بمقدار 7 إلى 14 مرة أكثر من أسلوب تلقي المحاضرات وإجراء الاختبارات. يمكننا في ظل ذلك أن نفهم الأسباب التي تدعو جهات التوظيف إلى النظر إلى الخريجين باعتبارهم مفتقدين للمهارات اللازمة للتعامل مع معطيات الواقع. حيث لا تتجاوز نسبة جهات العمل التي ترى أن الخريجين الجدد يمتلكون المهارات اللازمة لبيئة العمل نسبة 11%، بناء على استبيان أجرته غالوب سترادا في عام 2017.

لا شك أن المهارات التقنية التي تعلّمها الجماعات مهمة إلى حد ما، إلا أنها سرعان ما تتخطاها التطورات الحديثة، كما أنها تتطلب سلسلة متواصلة من التعلم وإعادة التعلم. لذا نرى أن على الجامعات أن تحرص على تنمية المهارات المستدامة، مثل التفكير النقدي ومهارات إيجاد الحلول والتواصل والعمل المشترك. فتلك هي المهارات القابلة للنقل والتطبيق على نطاق واسع من السياقات المهنية، حتى الجديدة منها والتي لم يسبق للطلبة الاطلاع عليها أو تعلمها. ولتحقيق ذلك، لا بد من جعل تعليم وتطبيق هذا النوع من المهارات جزء أساسيًا من المقرر الأكاديمي، ليكتسب الطلبة القدرة على نقلها وممارستها في شتى السياقات المهنية.

لذا قام مشروع مينيرفا، الذي تم تأسيسه في عام 2011، بإعادة تخيل التعليم العالي بابتكار مقرر متداخل المناهج وعابر للسياقات، ينصب تركيزه على مخرجات الطلبة، ويتم تعليمه بأساليب قائمة الأسس العلمية لتلقي المعرفة. حيث يقوم أسلوب مينيرفا التعليمي على مبدأ “التعلّم الفعّال”، والذي ينقل دور الأساتذة من إلقاء المحاضرات إلى إدارة تفاعل الطلبة مع المواضيع التعليمية، لتعميق استيعابهم للمفاهيم الفكرية، وليكونوا بالتالي قادرين على تطبيقها في السياقات المختلفة على أرض الواقع.

وقد عقد مشروع مينيرفا مؤخرًا اتفاقية شراكة مع جامعة زايد، أحد المؤسسات التعليمية الرائدة في المنطقة، كنواة لتوجه أكاديمي متفوق قادر على إعداد قادة المستقبل. حيث تم إطلاق جامعة زايد X مينيرفا، أول برنامج بكالوريوس متداخل المناهج في الإمارات العربية المتحدة، بهدف مساعدة الطلبة على اكتساب المهارات القابلة للتطبيق، ليشقوا طريقهم بنجاح في وجه تغيرات ساحة الأعمال المعاصرة، ويتولوا مواقع القيادة بثقة وأهداف واضحة.

يتيح برنامج جامعة زايد X مينيرفا للطلبة الاختيار من بين ثلاث تخصصات بكالوريوس متداخلة المناهج، تتمحور حول التحديات العالمية الراهنة في مجال الأعمال والبنية الاجتماعية ومجال التقنية الحديثة. وسيتلقى الطلبة دروسهم الأكاديمية على منصة افتراضية فائقة التطور، إلى جانب اكتساب المهارات والمعرفة عبر الممارسة التطبيقية في الإمارات وخارجها، كما سيضمن للطلبة صقل المهارات المؤثرة، مثل مخاطبة الجمهور والمناظرة واتخاذ القرار.

يمكّن البرنامج الطلبة كذلك من تطبيق ما تعلموه في بيئات العمل على أرض الواقع. حيث سيقضي الطلبة جزءًا مهمًا من مسيرتهم التعليمية في العمل ضمن مجموعات على مشاريع معقدة في العديد من الشركات الرائدة. كما ستتاح للطلبة أثناء مرحلة الدراسة فرص حصرية للعمل بدوام جزئي والعمل كمتدربين، مما سيعزز من فرص توظيفهم في المستقبل.

سيزود هذا التوجه التحولي للتعليم العالي الطلبة بالأدوات اللازمة للارتقاء بخبراتهم المهنية ومواصلة النجاح في وجه متغيرات العصر. فليس بوسع أي منا التنبؤ بما سيطرأ على العالم من تغيرات، أو بما سيستحدثه الزمن من مجالات مهنية جديدة. ولهذا السبب بالتحديد لا بد لنا من تجهيز الطلبة بمهارات ستخدمهم مدى الحياة، وأن ننمي لديهم القدرات الذهنية التي ستمكنهم من نقل تلك المهارات إلى سياقات جديدة لم يعهدوها من قبل. ولن يكون بإمكاننا تحقيق ذلك ما لم نحدث تحولًا جذريًا في أساليب ومناهج التعليم.

بواسطة: Sitemanager

مقالات ذات صلة

اضف تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

أراء الجمهور (1)

يبرز هذا الخبر أهمية إعادة النظر في أساليب التعليم العالي لضمان مواءمتها مع متطلبات المستقبل. فمع التغيرات السريعة في سوق العمل، لم يعد التلقين والحفظ كافيين، بل أصبح التركيز على المهارات التحليلية والتفكير النقدي والتعلم المستمر ضرورة ملحّة. النموذج الذي قدمه مشروع "مينيرفا" يثبت أن هناك طرقًا تعليمية أكثر فاعلية، تعتمد على التفاعل والابتكار بدلاً من الأساليب التقليدية. لذا، فإن الجامعات مطالبة بتحديث مناهجها واعتماد استراتيجيات تدريس حديثة تُمكّن الطلاب من تطبيق المعرفة بمرونة، مما يعزز فرصهم في النجاح في عالم متغير باستمرار.
بواسطة Alaa waheed | الرد